في شهر يوليو من العام 1971 زرت ظفار في سلطنة عمان لإجراء تحقيق صحافي حول الثورة هناك، التي كانت قد انطلقت شرارتها الأولى في يونيو من العام 1965 بقيادة «جبهة تحرير ظفار» واستمرت مندلعة إلى نهاية العام 1975.
عندما انطلقت الثورة، لم تكن أوضاع سلطنة عمان مثلما هي عليه الحال اليوم، بل كانت عمان حينذاك ترزح تحت حكم مستبد ومتخلف، على الرغم من أنّ السلطان السابق سعيد بن تيمور، الذي كان يحكم عمان منذ العام 1932 خريج إحدى جامعات الهند، إلا أنّه فرض طوقاً من العزلة على بلاده، وأبقى الشعب العماني يرزح تحت وطأة الجهل والتخلف ويعاني الفقر ويعيش أوضاع مزرية، بينما كانت بريطانيا تهيمن على عموم الساحل العربي للخليج وعمان عبر معاهدات الحماية، التي أنهتها في بداية السبعينيات عندما اعتمدت سياستها القاضية بالانسحاب من منطقة شرقي السويس.
وشهدت عمان في تلك الفترة ثورات عدة تمازجت فيها العوامل الوطنية والقبلية والمناطقية، إلى أن تمكّن السلطان قابوس من الوثوب إلى السلطة في يوليو من العام 1970 وبدأ الانتقال بعمان نحو عهد جديد مختلف.
وخلال السنوات العشر للثورة في ظفار شهدت عمان بل المنطقة ككل تحولات عديدة: انتصار الثورة في جنوبي اليمن بقيادة «الجبهة القومية» وانسحاب البريطانيين من عدن وإمارات الجنوب وقيام «جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية»... الانسحاب البريطاني من القواعد البريطانية في الخليج... أزمة الجزر... قيام دولة الإمارات العربية المتحدة... استقلال البحرين وقطر... وأخيراً إطاحة حكم السلطان سعيد بن تيمور... التعاون العسكري العماني – الإيراني.
وفي الوقت نفسه شهدت الثورة في ظفار تحولات ونقلات عدة: تأسيس «جبهة تحرير ظفار» بالاتفاق بين ثلاث فصائل (القوميون العرب، الجمعية الخيرية الظفارية، ومنظمة الجنود الظفاريين)... مؤتمر حمرين في نوفمبر من العام 1968، الذي تغيّر فيه اسم الجبهة، وتغيّرت هويتها الفكرية إلى الاشتراكية بتأثير من الوضع الجديد في «اليمن الديموقراطي» والتحولات اليسارية، التي شهدتها حركة القوميين العرب على المستوى العربي ككل... الانشقاق في الجبهة والتحاق بعض قيادييها وكوادرها بحكومة السلطان الجديد، وبينهم يوسف بن علوي عبدالله وزير الدولة للشؤون الخارجية الحالي... انطلاقة عمل مسلح محدود في مناطق أخرى من عمان غير ظفار باسم «الجبهة الوطنية الديموقراطية» والقبض على قياداتها في يونيو من العام 1970 .... مؤتمر رخيوت في يونيو 1971 وهو المؤتمر الثالث للجبهة وتغيير اسم الجبهة إلى «الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي» بعد توحدها مع بقايا «الجبهة الوطنية الديموقراطية»... احتلال بعض المدن في ظفار أو تحريرها وبالعكس... مراجعة الاستراتيجية السابقة لتحرير الخليج ووضع استراتيجية جديدة تنحصر في عمان وتغيير اسم الجبهة بحذف «الخليج العربي» من اسمها في يوليو من العام 1974... الدعم العسكري الإيراني للقوات الحكومية... تراجع مقاتلي الجبهة إلى المنطقة الغربية، ثم الانسحاب إلى اليمن الجنوبي... إحكام الحكومة سيطرتها على الإقليم بأكمله وانتهاء الثورة المسلحة في نهاية العام 1975... عودة معظم قادة الجبهة إلى عمان.
تلك كانت لمحة عن ظروف المنطقة وعمان واقليم ظفار والثورة المسلحة بدايتها وتطوراتها ونهايتها... في يوليو من العام 1971 أوفدتني جريدة «السياسة» في مهمة صحافية إلى ظفار، التي قدمت إليها عبر عدن على متن طائرة ذات محركين حطت في مطار الغيظة عاصمة محافظ المهرة، ومنها انتقلت إلى معسكرات الثورة بالسيارة حيناً ومشياً على الأقدام معظم الوقت في مسارات وعرة وخطرة فوق الجبال وبين الوديان السحيقة خلال موسم «الخريف الظفاري» الماطر والجميل... وصادف وصولي انتهاء أعمال مؤتمر رخيوت وانتخاب قيادة جديدة للجبهة، التقيت بعض القياديين شخصياً وأجريت معهم لقاءات صحافية، وبينهم: عبدالعزيز القاضي الأمين العام للجبهة، ومحمد أحمد الغساني، وطلال سعد واسمه الحقيقي سالم بن أحمد الغساني، وأحمد عبدالصمد، وآخرون.
شاهدت مدرسة الثورة في «مرارة» التي كانت تديرها المناضلة البحرينية ليلى فخرو الملقبة «الرفيقة هدى»، التي كانت تضم نحو أربعمئة طالب وطالبة بين السادسة والتاسعة عشرة... أمضيت بضعة أيام في معسكر الثورة في «حوف» على الحدود اليمنية – العمانية، الذي افتتح في يناير من العام 1969 للتدريب العسكري الأساسي، ولمحو الأمية في دورات مدتها ستة أشهر... وبالتأكيد فقد ساهمت الجبهة في محو الأمية ونشر التعليم وتقديم خدمات صحية للأهالي في الريف الظفاري وبعض المدن، التي سيطرت عليها فترة من الوقت، كما أصدرت قراراً جرى تطبيقه بالفعل يقضي بتحرير العبيد، وهو ما مثّل نقلة مهمة في حياة المجتمع الظفاري... تنقلت مشياً على الأقدام مع مقاتلين إلى مناطق أمامية... ولم أشهد قتالاً فقد كانت المنطقة الغربية من ظفار تحت سيطرة شبه كاملة للجبهة، ولكني شهدت حالة استنفار وانتشار عندما اقتربت إحدى الطائرات الحربية من أجواء المنطقة... أصبت بالدوسنتاريا وعولجت مؤقتاً بحبوب السلفا على يد المهندس الزراعي البحريني عبدالنبي العكري الملقب «حسين موسى»، الذي كان يدير مزرعة نموذجية للجبهة في المنطقة الغربية... عدت عبر الطريق ذاتها إلى «الغيظة» وأمضيت فيها بضعة أيام في بيت المحافظ، وهو بيت عربي قديم أثاثه لا يتجاوز البسط والفِرش وبعض المساند والوسائد... التقيت العديد من أبناء المهرة الذين عملوا في الكويت وتحدثوا عن ذكرياتهم وانطباعاتهم... حملت معي منهم عشرات الرسائل إلى أقاربهم ومعها عدد من ساعات الويست إند التي تحتاج إصلاحاً في ورشة وكالة الشركة بالكويت!
خلال وجودي في «عدن» التقيت رئيس مجلس الرئاسة في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية سالم ربيّع علي الشهير بسالمين، وسأكتب عن ذلك اللقاء ذات مرة...وإلى حلقة أخرى من «وجوه وأحداث في الذاكرة
